كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإما بمعنى الجماعة، أنشد ابن الأعرابي:
أعطى فأعطاني يدًا ودَارا وباحةً حوَّلها عَقَارا ومنه الحديث: «وهم يدٌ على من سواهم». أي: هم مجتمعون على أعدائهم، يعاون بعضهم بعضًا- قاله أبو عبيدة- وإما بمعنى الذل- نقله ابن الأعرابي وحكاه وجهًا في الآية-.
هذا إن أريد باليد يد المعطي، وإن أريد بها يد الآخذ، فاليد إما بمعنى القوة، أي: عن يد قاهرة مستولية، ويقولون: ما لي به يد أي: قوة، وإما بمعنى السلطان، وهو كالذي قبله، ومنه يد الريح سلطانها. قال لَبِيد:
نِطافٌ أمْرُهَا بِيَدِ الشَّمَالِ

لما ملكت الريح تصريف السحاب، جعل لها سلطان عليه.
وإما بمعنى النعمة، أي: عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبول الجزية، وترك أنفسهم عليهم، نعمة عليهم.
قال الناصر في الانتصاف: وهذا الوجه أملى بالفائدة.
وإمّا بمعنى الغنى، حكاه في العناية، ونقله التاج من معاني اليد.
وقوله تعالى: {وهم صاغرون} أي: أذلاء.
تنبيهات:
الأول: قوله تعالى: {عن يد} إما حال من الضمير في: {يُعْطوا}، أو من الجزية أي: مقرونة بالإنقياد، ومسلمة بأيديهم، وصاردة عن غنى، ومقرونة بالذلة، وكائنة عن إنعام عليهم. كذا في العناية.
الثاني: قال السيوطي في الإكليل: هذه الآية أصل قبول الجزية من أهل الكتاب.
الثالث: قال أيضًا: استدل من قال بأن معنى اليد فيما تقدم الغنى، أنها تجب على مُعسر، ومن قال بأنه لا يرسل بها، على أنه لا يجوز توكيل مسلم بها، ولا أن يضمنها عنه، ولا أن يحيل بها عليه.
الرابع: قال السيوطي أيضًا: استدل بقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} من قال إنها تؤخذ بإهانة، فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه، ويحني ظهره، ويضعها في الميزان، ويقبض الآخذ لحيته، ويضرب لهزمتيه.
قال: ويردّ به على النووي حيث قال: إن هذه سيئة باطلة. انتهى.
قلت: ولقد صدق النووي عليه الرحمة والرضوان، فإنها سيئة قبيحة، تأباها سماحة الدين، والرفق المعلوم منه، ولولا قصده الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة.
ثم رأيت ابن القيّم رد ذلك بقوله: هذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، قال: والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم، وإعطاء الجزية، فإن ذلك الصغار، وبه قال الشافعي. انتهى.
ثم قال السيوطي: واستدل بالآية من قال: إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام، لأن مفهومها الكف عنهم عند أدائها، ومن الكف ألا يجلوا، ومن قال لا حدّ لأقلها، ومن قال هي عوض حقن الدم لا أجرة الدار. انتهى.
السادس: روى أبو عبيد في كتاب الأموال عن ابن شهاب قال: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب، أهل نجران، وكانوا نصارى.
السادس: قال أبو عبيد: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب، وعلى المجوس بالسنة.
وقال ابن القيم:
فلما نزلت آيةُ الجزية، أخذها صلى الله عليه وسلم مِن ثلاث طوائف: مِن المجوسِ، واليهود، والنصارى، ولم يأخذها من عُبَّادِ الأصنام.
فقيل: لا يجوزُ أخذُها مِن كافر غير هؤلاء، ومَن دان بدينهم، اقتداءً بأخذه وتركه. وقيل: بل تُؤخذ من أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأول: قول الشافعي رحمه الله، وأحمد، في إحدى روايتيه.
والثاني: قولُ أبى حنيفة، وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى.
وأصحاب القول الثاني يقولون: إنما لم يأخذها مِنْ مشركي العربِ، لأنها إنما نزَلَ فرضُها بعد أن أسلمت دَارَةُ العرب، ولم يبق فيها مُشِركٌ، فإنها نزلت بعد فتح مكة، ودخولِ العربِ في دين الله أفواجًا، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوكَ، وكانُوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون، لكانُوا يلونه، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين.
ومن تأمَّل السِّيَرَ، وأيامَ الإسلام، علم أن الأمرَ كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزيةُ لعدم مَن يُؤخذ عنه، لا لأنهم ليسوا مِن أهلها، قالوا: وقد أخذها من المجوس، وليسوا بأهلِ كتاب، ولا يَصح أنه كان لهم كتاب، ورفع وهو حديث لا يثبُت مثلُه، ولا يصح سنده.
ولا فرق بين عُبَّادِ النَّار، وعُبَّاد الأصنام، بل أهلُ الأوثانِ أقربُ حالًا من عُبَّادِ النار، وكان فيهم مِن التمسك بدين إبراهيم ما لم يكُن في عُبَّاد النار، بل عُبَّاد النار أعداءُ إبراهيم الخليل، فإذا أُخِذَتْ منهم الجزية، فأخذها من عُبَّاد الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم أنه قال: «إذا لَقيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعهُم إلى إِحْدَى خِلاَلٍ ثَلاَثٍ، فَأيَّتهنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا، فاقْبَلْ مِنْهُم، وكُفَّ عنهم». ثم أمرَه أن يَدْعُوَهُم إلى الإِسْلاَمِ، أَو الجِزْيَةِ، أو يُقَاتِلَهم.
وقال المغيرة لعاملِ كسرى: «أمرنا نبيُّنَا أن نُقاتِلَكم حتى تعبُدوا الله، أو تؤدُّوا الجزية».
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِقريش: «هَلْ لَكُمْ في كَلِمةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَرَبُ، وتُؤدَّي العَجَمُ إِلَيْكُمُ بِهَا الجِزْيَةَ؟». قالُوا: ما هي؟ قال: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله».
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعًا، وثلاثين فرسًا، وثلاثين بعيرًا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح، يغزون بها، والمسلمون ضامنون بها، حتى يردوها عليهم، إن كانت باليمن كيدة أو غدرة، وعلى ألا يُهْدَم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قسّ، ولا يفتنوا عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثًا، أو يأكلوا الربا.
ولما وجه معاذًا إلى اليمن أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنَ الثياب.
وفى هذا دليل على أن الجزية غيرُ مقدَّرة الجنس، ولا القدرِ، بل يجوز أن تكونَ ثيابًا وذهبًا وحُللًا، وتزيدُ وتنقُصُ بحسب حاجة المسلمين، واحتمال مَن تؤخذ منه، وحاله في الميسرة، وما عنده من المال.
ولم يفرِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه في الجزية بين العربِ والعجم، بل أخذها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب، وأخذها مِن مجوس هجر، وكانوا عربًا، فإن العرب أمةٌ ليس لها في الأصل كتاب، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين مَن جاورها من الأُمم، فكانت عربُ البحرين مجوسًا لمجاورتها فارِسَ، وتنوخَ، وبُهْرَة، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم، وكانت قبائلُ من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن، فأجرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحكامَ الجِزية، ولم يعتبر آباءهم، ولا متى دخلُوا في دينِ أهل الكتاب:
هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده، ومن أين يعرِفُونَ ذلك، وكيف ينضبط وما الذي دلَّ عليه؟ وقد ثبت في السير والمغازي، أن من الأنصار مَن تهوَّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لا إكْرَاهَ في الدِّينِ}، وفى قوله لمعاذ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حالم دينارًا» دليل على أنها لا تُؤخذ من صبى ولا امرأة.
السابع: قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتابه الخراج:
وليس في شيء من أموالهم، الرجال منهم والنساء، زكاة، إلا ما اختلفوا به في تجارتهم، فإن علهيم نصف العشر، ولا يؤخذ من مال حتى يبلغ مائتي درهم، أو عشرين مثقالًا من الذهب، أو قيمة ذلك من العروض للتجارة، ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يرفق بهم، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفي منهم الجزية، ولا يحل للوالي أن يدع أحدًا من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة، إلا أخذ منهم الجزية، ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك، ولا يحل أن يدع واحدًا ويأخذ من واحد، ولا يسع ذلك، لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية، والجزية بمنزلة مال الخراج.
ثم قال أبو يوسف مخاطبًا هارون الرشيد:
وقد ينبغي يا أمير المؤمنين- أيدك الله- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم، والتفقد لهم حتى لا يُظلموا ولا يؤذوا، ولا يُكلفوا فوق طاقتهم، ولا يُؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه». وكان فيما تكلم به عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته: أُوصِي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم.
قال: وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد أنه مرّ على قوم قد قال: أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام، فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقيل له أقيموا في الشمس في الجزية! قال: فكره ذلك، ودخل على أميرهم، وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عذب الناس عذبه الله».
قال: وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عُمَر بن الخطاب مرّ بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس، يصبّ على رءوسهم الزيت، فقال: ما بال هؤلاء؟ فقال: عليهم الجزية لم يؤدوها، فهم يعذبون حتى يؤدوها! فقال عمر: فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية؟ قالوا: يقولون لا نجد! قال: فدعوهم لا تكلفوهم ما لا يطيقون.
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تعذبوا الناس، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا، يعذبهم الله يوم القيامة وأمر بهم فخلي سبيلهم».
ثم قال: وحدثني عمير بن نافع عن أبي بكر قال: مرّ عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي: أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته، ثم نخذله عند الهرم: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} والفقراء المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب.
ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. قال: قال أبو بكر: أنا شهدت ذلك من عمر، ورأيت ذلك الشيخ. انتهى.
الثامن: في الغرض من الجزية ورأفة المسلمين بمن أظلوهم بسيوفهم.
قال الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في كتاب الإسلام والنصرانية في هذا المعنى، تحت بحث المقابلة بين الإسلامي الحربيّ، المسيحية السلمية، ما نصه ص74:
الإسلام الحربي، كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه، ثم يترك الناس، وما كانوا عليه من الدين، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الإعتقاد، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها، لتكون عونًا على صيانتهم، والمحافظة على أمنهم في ديارهم، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار، لا يضايقون في عمل، ولا يضامون في معاملة، خلفاء المسلمين، كانوا يوصون قوادهم باحترام العبَّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال، وكل من لم يُعِن على القتال.
جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، ومن آذى ذميًا فليس منا واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في الإسلام وضيقُ الصدر من طبع الضعيف، فذلك مما لا يلصق بطبيعته، ويخلط بطينته.
المسيحيةُ السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها، تراقب أعمال أهله، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر، مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم، وتعميدهم، أجلتهم عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاءً حقيقيًا، لا يمنع غيرَ المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد، أو شدة العضد، كما شاهد التاريخ، وكما يشهده كاتبوه.
ثم قال: فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها، بشيء من المال، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلّبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء، لا يعكرون معه صفو الدولة، ولا يخلّون بنظام السلطة العامة، ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الإختيار في شئونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائهم. انتهى.